فصل: كتاب الخوف والرجاء

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


يان فضل النعمة على البلاء

لعلك تقول‏:‏ هذه الأخبار تدل على أن البلاء خير في الدنيا من النعم فهل لنا أن نسأل الله البلاء فأقول‏:‏ لا وجه لذلك لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنه كان يستعيذ في دعائه من بلاء الدنيا وبلاء الآخرة وكان يقول هو والأنبياء عليهم السلام‏:‏ ‏"‏ ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ‏"‏ وكانوا يستعيذون من شماتة الأعداء وغيرها‏.‏

وقال علي كرم الله وجهه‏:‏ اللهم إني أسألك الصبر فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لقد سألت البلاء فاسأله العافية ‏"‏‏.‏

وروى الصديق رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ سلوا الله العافية فما أعطي أحد أفضل من العافية إلا اليقين ‏"‏ وأشار باليقين إلى عافية القلب عن مرض الجهل والشك فعافية القلب أعلى من عافية البدن‏.‏

وقال الحسن رحمه الله الخير الذي لا شر فيه‏:‏ العافية مع الشكر فكم من منعم عليه غير شاكر‏.‏

وقال مطرف بن عبد الله‏:‏ لأن أعافى فأشكر أحب إلي من أن أبتلى فأصبر‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم في دعائه‏:‏ ‏"‏ وعافيتك أحب إلي ‏"‏ وهذا أظهر من أن يحتاج فيه إلى دليل واستشهاد وهذا لأن البلاء صار نعمة باعتبارين‏:‏ أحدهما بالإضافة إلى ما هو أكثر منه إما في الدنيا أو في الدين والآخر بالإضافة إلى ما يرجى من الثواب فينبغي أن نسأل الله تمام النعمة في الدنيا ودفع ما فوقه من البلاء ونسأله الثواب في الآخرة على الشكر على نعمته فإنه قادر على أن يعطي على الشكر ما لا يعطيه على الصبر‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد قال بعضهم‏:‏ أود أن أكون جسراً على النار يعبر علي الخلق كلهم فينجون وأكون أنا في النار‏.‏

وقال سمنون رحمه الله تعالى‏:‏ وليس لي في سواك حظ فكيفما شئت فاختبرني فهذا من هؤلاء سؤال للبلاء‏!‏ فاعلم أنه حكي عن سمنون المحب رحمه الله أنه بلي بعد هذا البيت بعلة الحصر فكان بعد ذلك يدور على أبواب المكاتب ويقول للصبيان‏:‏ ادعوا لعمكم الكذاب وأما محبة الإنسان ليكون هو في النار دون سائر الخلق فغير ممكنة ولكن قد تغلب المحبة على القلب حتى يظن المحب نفسه حباً لمثل ذلك فمن شرب كأس المحبة سكر ومن سكر توسع في الكلام ولو زايله سكره علم أن ما غلب عليه كان حالة لا حقيقة لها فما سمعته من هذا الفن فهو من كلام العشاق الذين أفرط حبهم وكلام العشاق يستلذ سماعه ولا يعول عليه كما حكي أن فاختة كان يراودها زوجها فتمنعه فقال‏:‏ ما الذي يمنعك عني ولو أردت أن أقلب لك الكونين مع ملك سليمان ظهراً لبطن لفعلته لأجلك فسمعه سليمان عليه السلام فاستدعاه وعاتبه فقال‏:‏ يا نبي الله كلام العشاق لا يحكى وهو كما قال‏.‏

وقال الشاعر‏:‏ أريد وصاله ويريد هجري فأترك ما أريد لما يريد وهو أيضاً محال ومعناه أني أريد ما لا يريد لأن من أراد الوصال ما أراد الهجر فكيف أراد الهجر الذي لم يرده يل لا يصدق هذا الكلام إلا بتأويلين‏:‏ أحدهما أن يكون ذلك في بعض الأحوال حتى يكتسب به رضاه الذي يتوصل به إلى الوصال في الاستقبال فيكون الهجران وسيلة إلى الرضا والرضا وسيلة إلى وصال المحبوب والوسيلة إلى المحبوب محبوبة فيكون مثاله مثال محب المال إذا سلم درهماً في درهمين فهو بحب الدرهمين يترك الدرهم في الحال‏.‏

الثاني‏:‏ أن يصير رضاه عنده مطلوباً من حيث إنه رضاه فقط ويكون له لذة في استشعاره رضا محبوبه منه تزيد تلك اللذة على لذته في مشاهدته مع كراهته فعند ذلك يتصور أن يريد ما فيه الرضا فلذلك قد انتهى حال بعض المحبين إلى أن صارت لذتهم في البلاء مع استشعارهم رضا الله عنهم أكثر من لذتهم في العافية من غير شعور الرضا فهؤلاء إذا قدروا رضاه في البلاء صار البلاء أحب إليهم من العافية وهذه حالة لا يبعد وقوعها في غلبات الحب ولكنها لا تثبت وإن ثبتت مثلاً فهل هي حالة صحيحة أم حالة اقتضتها حالة أخرى وردت على القلب فمالت به عن الاعتدال هذا فيه نظر وذكر تحقيقه لا يليق بما نحن فيه وقد ظهر بما سبق أن العافية خير من البلاء فنسأل الله تعالى المَانّ بفضله على جميع خلقه العفو في الدين والدنيا والآخرة لنا ولجميع المسلمين‏.‏

بيان الفضل من الصبر والشكر

اعلم أن الناس اختلفوا في ذلك فقال قائلون‏:‏ الصبر أفضل من الشكر‏.‏

وقال آخرون‏:‏ الشكر أفضل‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هما سيان‏.‏

وقال آخرون يختلف ذلك باختلاف الأحوال واستدل كل فريق بكلام شديد الاضطراب بعيد عن التحصيل فلا معنى للتطويل بالنقل بل المبادرة إلى إظهار الحق أولى‏.‏

فنقول‏:‏ في بيان ذلك مقامان‏:‏ المقام الأول‏:‏ البيان على سبيل التساهل‏:‏ وهو أن ينظر إلى ظاهر الأمر ولا يطلب التفتيش بحقيقته وهو البيان الذي ينبغي أن يخاطب به عوام الخلق لقصور أفهامهم عن درك الحقائق الغامضة وهذا الفن من الكلام هو الذي ينبغي أن يعتمده الوعاظ إذ مقصود كلامهم من مخاطبة العوام إصلاحهم والظئر المشفقة لا ينبغي أن تصلح الصبي الطفل بالطيور السمان وضروب الحلاوات بل باللبن اللطيف وعليها أن تؤخر عنه أطايب الأطعمة إلى أن يصير محتملاً لها بقوته ويفارق الضعف الذي هو عليه في بنيته فنقول‏:‏ هذا المقام في البيان يأبى البحث والتفصيل ومقتضاه النظر إلى الظاهر المفهوم من موارد الشرع وذلك يقتضي تفضيل الصبر فإن الشكر وإن وردت أخبار كثيرة في فضله فإذا أضيف إليه ما ورد في فضيلة الصبر أكثر بل فيه ألفاظ صريحة في التفضيل كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من أفضل ما أوتيتم اليقين وعزيمة الصبر ‏"‏‏.‏

وفي الخبر يؤتى بأشكر أهل الأرض فيجزيه الله جزاء الشاكرين ويؤتى بأصبر أهل الأرض فيقال له‏:‏ أما ترضى أن يجزيك كما جزينا هذا الشاكر فيقول‏:‏ نعم يا رب فيقول الله تعالى‏:‏ كلا أنعمت عليه فشكر وابتليت فصبرت لأضعفن لك الأجر عليه فيعطى أضعاف جزاء الشاكرين‏.‏

وقد قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب ‏"‏‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏"‏ الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر ‏"‏ فهو دليل على أن الفضيلة في الصبر إذ ذكر ذلك في معرض المبالغة لرفع درجة الشاكر فألحقه بالصبر فكان هذا منتهى درجته ولولا أنه فهم من الشرع علو درجة الصبر لما كان إلحاق الشكر به مبالغة في الشكر وهو كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الجمعة حج المساكين وجهاد المرأة حسن التبعل ‏"‏ وكقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ شارب الخمر كعابد الوثن ‏"‏ وأبداً المشبه به ينبغي أن يكون أعلى رتبة فكذلك قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الصبر نصف الإيمان ‏"‏ لا يدل على أن الشكر مثله وهو كقوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ الصوم نصف الصبر ‏"‏ فإن كل ما ينقسم قسمين يسمى أحدهما نصفاً وإن كان بينهما تفاوت كما يقال‏:‏ الإيمان هو العلم والعمل فالعمل هو نصف الإيمان فلا يدل ذلك على أن العمل يساوي العلم‏.‏

وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ آخر الأنبياء دخولاً الجنة سليمان بن داود عليهما وفي خبر آخر‏:‏ ‏"‏ يدخل سليمان بعد الأنبياء بأربعين خريفاً ‏"‏‏.‏

وفي الخبر‏:‏ ‏"‏ أبواب الجنة كلها مصراعان إلا باب الصبر فإنه مصراع واحد وأول من يدخله أهل البلاء أمامهم أيوب عليه السلام ‏"‏‏.‏

وكل ما ورد في فضائل الفقر يدل على فضيلة الصبر لأن الصبر حال الفقير والشكر حال الغني فهذا هو المقام الذي يقنع العوام ويكفيهم في الوعظ اللائق والتعريف لما فيه صلاح دينهم‏.‏

المقام الثاني‏:‏ هو البيان الذي نقصد به تعريف أهل العلم والاستبصار بحقائق الأمور بطريق الكشف والإيضاح فنقول فيه‏:‏ كل أمرين مبهمين لا تمكن الموازنة بينهما مع الإبهام ما لم يكشف عن حقيقة كل واحد منهما وكل مكشوف يشتمل على أقسام لا تمكن الموازنة بين الجملة والجملة بل يجب أن تفرد الآحاد بالموازنة حتى يتبين الرجحان‏.‏

والصبر والشكر أقسامهما وشعبهما كثيرة فلا يتبين حكمهما في الرجحان والنقصان مع الإجمال فنقول‏:‏ قد ذكرنا أن هذه المقامات تنتظم من أمور ثلاثة‏:‏ علوم وأحوال وأعمال والشكر والصبر وسائر المقامات هي كذلك وهذه الثلاثة إذا وزن البعض منها بالبعض لاح للناظرين في الظواهر أن العلوم تراد للأحوال والأحوال تراد للأعمال والأعمال هي الأفضل وأما أرباب البصائر فالأمر عندهم بالعكس من ذلك فإن الأعمال تراد للأحوال والأحوال تراد للعلوم فالأفضل العلوم ثم الأحوال ثم الأعمال لأن كل مراد لغيره فذلك الغير لا محالة أفضل منه‏:‏ وأما آحاد هذه الثلاثة فالأعمال قد تتساوى وقد تتفاوت إذا أضيف بعضها إلى بعض وكذا آحاد الأحوال إذا أضيف بعضها إلى بعض وكذا آحاد المعارف وأفضل المعارف علوم المكاشفة وهي أرفع من علوم المعاملة بل علوم المعاملة دون المعاملة لأنها تزاد للمعاملة ففائدتها إصلاح العمل وإنما فضل العالم بالمعاملة على العابد إذا كان علمه مما يعم نفعه فيكون بالإضافة إلى عمل خاص إلى عمل أفضل وإلا فالعلم القاصر بالعمل ليس بأفضل من العمل القاصر فنقول‏:‏ فائدة إصلاح العمل إصلاح حال القلب وفائدة إصلاح حال القلب أن ينكشف له جلال الله تعالى في ذاته وصفاته وأفعاله فأرفع علوم المكاشفة معرفة الله سبحانه وهي الغاية التي تطلب لذاتها فإن السعادة تنال بها بل هي عين السعادة ولكن قد لا يشعر القلب في الدنيا بأنها عين السعادة وإنما يشعر بها في الآخرة فهي المعرفة الحرة التي لا قيد عليها فلا تتقيد بغيرها وكل ما عداها من المعارف عبيد وخدم بالإضافة إليها فإنها إنما تراد لأجلها ولما كانت مرادة لأجلها كان تعاونها بحسب نفعها في الإفضاء إلى معرفة الله تعالى‏:‏ فإن بعض المعارف يفضي إلى بعض إما بواسطة أو بوسائط كثيرة فكما كانت الوسائط بينه وبين معرفة الله تعالى أقل فهي أفضل وأما الأحوال فنعني بها أحوال القلب في تصفيته وتطهيره عن شوائب الدنيا وشواغل الخلق حتى إذا طهر وصفا اتضح له حقيقة الحق فإذن فضائل الأحوال بقدر الأحوال بقدر تأثيرها في إصلاح القلب وتطهيره وإعداده لأن تحصل له علوم المكاشفة وكما أن تصقيل المرآة يحتاج إلى أن يتقدم على تمامه أحوال للمرآة بعضها أقرب إلى الصقالة من بعض فكذلك أحوال القلب فالحالة القريبة أو المقربة من صفاء القلب هي أفضل مما دونها لا محالة بسبب القرب من المقصود وهكذا ترتيب الأعمال فإن تأثيرها في تأكيد صفاء القلب وجلب الأحوال إليه وكل عمل إما أن يجلب إليه حالة مانعة من المكاشفة موجبة لظلمة القلب جاذبة إلى زخارف الدنيا وإما أن يجلب إليه حالة مهيئة للمكاشفة موجبة لصفاء القلب وقطع علائق الدنيا عنه واسم الأول المعصية واسم الثاني الطاعة والمعاصي من حيث التأثير في ظلمة القلب وقساوته متفاوتة وكذا الطاعات في تنوير القلب وتصفيته فدرجاتها بحسب درجات تأثيرها وذلك يختلف باختلاف الأحوال وذلك أنا بالقول المطلق ربما نقول الصلاة النافلة أفضل من كل عبادة نافلة وأن الحج أفضل من الصدقة وأن قيام الليل أفضل من غيره ولكن التحقيق فيه أن الغني الذي معه مال وقد غلبه البخل وحب المال على إمساكه فإخراج الدرهم له أفضل من قيام ليل وصيام أيام لأن الصيام يليق بمن غلبته شهوة البطن فأراد كسرها أو منعه الشبع عن صفاء الفكر من علوم المكاشفة فأراد تصفية القلب بالجوع فأما هذا المدبر إذا لم تكن حاله هذه الحال فليس يستضر بشهوة بطنه ولا هو مشتغل بنوع فكر يمنعه الشبع منه فاشتغاله بالصوم خروج منه عن حاله إلى حال غيره وهو كالمريض الذي يشكو وجع البطن إذا استعمل دواء الصداع لم ينتفع به بل حقه أن ينظر في المهلك الذي استولى عليه والشح المطاع من جملة المهلكات ولا يزيل صيام مائة سنة وقيام ألف ليلة منه ذرة بل لا يزيله إلا إخراج المال فعليه أن يتصدق بما معه وتفصيل هذه مما ذكرناه في ربع المهلكات فليرجع إليه فإذن باعتبار هذه الأحوال يختلف وعند ذلك يعرف البصير أن الجواب المطلق فيه خطأ إذ لو قال لنا قائل‏:‏ الخبز أفضل أم الماء لم يكن فيه جواب حق إلا أن الخبز للجائع أفضل والماء للعطشان أفضل فإن اجتمعا فلينظر إلى الأغلب فإن كان العطش هو الأغلب فالماء أفضل وإن كان الجوع أغلب فالخبز أفضل فإن تساويا فهما متساويان وكذا إذا قيل‏:‏ السكنجين أفضل أم شراب اللينوفر لم يصح الجواب عنه مطلقاً أصلاً نعم لو قيل لنا‏:‏ السكنجين أفضل أم عدم الصفراء فنقول عدم الصفراء لأن السكنجين مراد له وما يراد لغيره فلذلك أفضل منه لا محالة فإذن في بذل المال عمل وهو الإنفاق ويحصل به حال وهو زوال البخل وخروج حب الدنيا من القلب ويتهيأ القلب بسبب خروج حب الدنيا منه لمعرفة الله تعالى وحبه فالأفضل المعرفة ودونها الحال ودونها العمل‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد حث الشرع على الأعمال وبالغ في ذكر فضلها حتى طلب الصدقات بقوله‏:‏ ‏"‏ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ويأخذ الصدقات ‏"‏ فكيف لا يكون الفعل والإنفاق هو الأفضل فاعلم أن الطبيب إذا أثنى على الدواء لم يدل على أن الدواء مراد لعينه أو على أنه أفضل من الصحة والشفاء الحاصل به ولكن الأعمال علاج لمرض القلوب ومرض القلوب مما لا يشعر به غالباً فهو كبرص على وجه من لا مرآة معه فإنه لا يشعر به ولو ذكر له لا يصدق به‏.‏

والسبيل معه المبالغة في الثناء على غسل الوجه بماء الورد مثلاً إن كان ماء الورد يزيل البرص حتى يستحثه فرط الثناء على المواظبة عليه فيزول مرضه فإنه لو ذكر له أن المقصود زوال البرص عن وجهك ربما ترك العلاج وزعم أن وجهه لا عيب فيه‏.‏

ولنضرب مثلاً أقرب من هذا‏:‏ من له ولد علمه العلم والقرآن وأراد أن يثبت ذلك في حفظه بحيث لا يزول عنه وعلم أنه لو أمره بالتكرار والدراسة ليبقى له محفوظاً لقال إنه محفوظ ولا حاجة بي إلى تكرار ودراسة لأنه يظن أن ما يحفظه في الحال يبقى كذلك أبداً وكان له عبيد فأمر الولد بتعليم العبيد ووعده على ذلك بالجميل لتتوفر داعيته على كثرة التكرار بالتعليم فربما يظن الصبي المسكين أن المقصود تعليم العبيد القرآن وأنه قد استخدم لتعليمهم فيشكل عليه الأمر فيقول‏:‏ ما بالي قد استخدمت لأجل العبيد وأنا أجل منهم وأعز عند الوالد وأعلم أن أبي لو أراد تعليم العبيد لقدر عليه دون تكليفي به وأعلم أن لا نقصان لأبي بفقد هؤلاء العبيد فضلاً عن عدم علمهم بالقرآن فربما يتكاسل هذا المسكين فيترك تعليمهم اعتماداً على استغناء أبيه وعلى كرمه في العفو عنه فينسى العلم والقرآن ويبقى مدبراً محروماً من حيث لا يدري وقد انخدع بمثل هذا الخيل طائفة وسلكوا طريق الإباحة وقالوا‏:‏ إن الله تعالى غني عن عبادتنا وعن أن يستقرض منا فأي معنى لقوله‏:‏ ‏"‏ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً ‏"‏ ولو شاء الله إطعام المساكين لأطعمهم فلا حاجة بنا إلى صرف أموالنا إليهم كما قال تعالى حكاية عن الكفار ‏"‏ وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه ‏"‏ وقالوا أيضاً‏:‏ ‏"‏ لو شاء ما أشركنا ولا آباؤنا ‏"‏ فانظر كيف كانوا صادقين في كلامهم وكيف هلكوا بصدقهم فسبحان من إذا شاء أهلك بالصدق وإذا شاء أسعد بالجهل‏:‏ ‏"‏ يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً ‏"‏ فهؤلاء لما ظنوا أنهم استخدموا لأجل المساكين والفقراء أو جل الله تعالى ثم قالوا لا حظ لنا في المساكين ولا حظ لله فينا وفي أموالنا سواء أنفقنا أو أمسكنا‏:‏ هلكوا كما هلك الصبي لما ظن أن مقصود الوالد استخدامه لأجل العبيد ولم يشعر بأنه كان المقصود ثبات صفة العلم في نفسه وتأكده في قلبه حتى يكون ذلك سبب سعادته في الدنيا وإنما كان ذلك من الوالد تلطفاً به في استجراره إلى ما فيه سعادته فهذا المثال يبين لك ضلال من ضل هذا الطريق فإذن هذا المسكين الآخذ لمالك يستوفي بواسطة المال خبث البخل وحب الدنيا من باطنك فإنه مُهلك لك فهو كالحجام يستخرج الدم منك ليخرج بخروج الدم العلة المهلكة من باطنك فالحجام خادم لك لا أنت خادم للحجام‏.‏

ولا يخرج الحجام عن كونه خادماً بأن يكون له غرض في أن يصنع شيئاً بالدم ولما كانت الصدقات مطهرة للبواطن ومزكية لها عن خبائث الصفات امتنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أخذها وانتهى عنها كما نهى عن كسب الحجام وسماها أوساخ أموال الناس وشرف أهل بيته بالصيانة عنها والمقصود أن الأعمال مؤثرات في القلب كما سبق في ربع المهلكات والقلب بحسب تأثيرها مستعد لقبول الهداية ونور المعرفة فهذا هو القول الكلي والقانون الأصلي الذي ينبغي أن يرجع إليه في معرفة فضائل الأعمال والأحوال والمعارف ولنرجع الآن إلى خصوص ما نحن فيه من الصبر والشكر فنقول‏:‏ في كل واحد منهما معرفة وحال وعمل فلا يجوز أن تقابل المعرفة في أحدهما بالحال أو العمل في الآخر بل يقابل كل واحد منها بنظيره حتى يظهر التناسب وبعد التناسب يظهر الفضل ومهما قوبلت معرفة الشاكر بمعرفة الصابر ربما رجعا إلى معرفة واحدة إذ معرفة الشاكر‏:‏ أن يرى نعمة العينين مثلاً من الله تعالى‏.‏

ومعرفة الصابر‏:‏ أن يرى العمى من الله وهما معرفتان متلازمتان متساويتان هذا إن اعتبرنا في البلاء والمصائب‏.‏

وقد بينا أن الصبر قد يكون على الطاعة وعن المعصية وفيهما يتحد الصبر والشكر لأن الصبر على الطاعة هو عين شكر الطاعة لأن الشكر يرجع إلى صرف نعمة الله تعالى إلى ما هو المقصود منها بالحكمة والصبر يرجع إلى ثبات باعث الدين في مقابلة باعث الهوى فالصبر والشكر فيه اسمان لمسمى واحد باعتبارين مختلفين فثبات باعث الدين في مقاومة باعث الهوى يسمى صبراً بالإضافة إلى باعث الهوى ويسمى شكراً بالإضافة إلى باعث الدين إذ باعث الدين إنما خلق لهذه الحكمة وهو أن يصرع به باعث الشهوة وقد صرفه إلى مقصود الحكمة فهما عبارتان عن معنى واحد فكيف يفضل الشيء على نفسه فإذن مجاري الصبر ثلاثة‏:‏ الطاعة والمعصية والبلاء وقد ظهر حكمهما في الطاعة والمعصية وأما البلاء فهو عبارة عن فقد نعمة والنعمة إما أن تقع ضرورية كالعينين مثلاً وإما أن تقع في محل الحاجة كالزيادة على قدر الكفاية من المال أما العينان فصبر الأعمى عنهما بأن لا يظهر الشكوى ويظهر الرضا بقضاء الله تعالى ولا يترخص بسبب العمى في بعض المعاصي وشكر البصير عليهما من حيث العمل بأمرين‏:‏ أحدهما أن لا يستعين بهما على معصية والآخر أن يستعملهما في الطاعة وكل أحد من الأمرين لا يخلو عن الصبر فإن الأعمى كفي الصبر عن الصور الجميلة لأنه لا يراها والبصير إذا وقع بصره على جميل فصبر كان شاكراً لنعمة العينين وإن أتبع النظر كفر نعمة العينين فقد دخل الصبر في شكره وكذا إذا استعان بالعينين على الطاعة فلا بد أيضاً فيه من صبر على الطاعة ثم قد يشكرها بالنظر إلى عجائب صنع الله تعالى ليتوصل به إلى معرفة الله سبحانه وتعالى فيكون هذا الشكر أفضل من الصبر ولولا هذا لكانت رتبة شعيب عليه السلام مثلاً وقد كان ضريراً من الأنبياء فوق رتبة موسى عليه السلام وغيره من الأنبياء لأنه صبر على فقد البصر وموسى عليه السلام لم يصبر مثلاً ولكان الكمال في أن يسلب الإنسان الأطراف كلها ويترك كلحم على وضم وذلك محال جداً لأن كل واحد من هذه الأعضاء آلة في الدين يفوت بفوتها ذلك الركن من الدين وشكرها باستعمالها فيما هي آلة فيه من الدين وذلك لا يكون إلا بصبر وأما ما يقع في محل الحاجة كالزيادة على الكفاية من المال فإنه إذا لم يؤت إلا قدر الضرورة وهو محتاج إلى ما وراءه ففي الصبر عنه مجاهدة وهو جهاد الفقر ووجود الزيادة نعمة وشكرها أن تصرف إلى الخيرات أو أن لا تستعمل في المعصية فإن أضيف الصبر إلى الشكر الذي هو صرف إلى الطاعة فالشكر أفضل لأنه تضمن الصبر أيضاً وفيه فرح بنعمة الله تعالى وفيه احتمال ألم في صرفه إلى الفقراء وترك صرفه إلى التنعم المباح وكان الحاصل يرجع إلى أن شيئين أفضل من شيء واحد وأن الجملة أعلى رتبة من البعض وهذا فيه خلل إذ لا تصبح الموازنة بين الجملة وبين أبعاضها وأما إذا كان شكره بأن لا يستعين به على معصية بل يصرفه إلى التنعم المباح فالصبر ههنا أفضل من الشكر والفقير الصابر أفضل من الغني الممسك ماله الصارف إياه إلى المباحات لا من الغني الصارف

ماله إلى الخيرات لأن الفقير قد جاهد نفسه وكسر نهمتها وأحسن الرضا على بلاء الله تعالى وهذه الحالة تستدعي لا محالة قوة والغني أتبع وأطاع شهوته ولكنه اقتصر على المباح والمباح فيه مندوحة عن الحرام ولكن لا بد من قوة في الصبر عن الحرام أيضاً إلا أن القوة التي عنها يصدر صبر الفقير أعلى وأتم من هذه القوة التي يصدر عنها الاقتصار في التنعم على المباح والشرف لتلك القوة التي يدل العمل عليها فإن الأعمال لا تراد إلا لأحوال القلوب وتلك القوة حالة للقلب تختلف بحسب قوة اليقين والإيمان فما دل على زيادة قوة في الإيمان فهو أفضل لا محالة‏.‏

وجميع ما ورد من تفضيل أجر الصبر على أجر الشكر في الآيات والأخبار إنما أريد به هذه الرتبة على الخصوص لأن السابق إلى أفهام الناس من النعمة والأموال الغنى بها والسابق إلى الأفهام من الشكر أن يقول الإنسان‏:‏ الحمد لله ولا يستعين بالنعمة على المعصية لا أن يصرفها إلى الطاعة فإذن الصبر أفضل من الشكر أي الصبر الذي تفهمه العامة أفضل من الشكر الذي تفهمه العامة وإلى هذا المعنى على الخصوص أشار الجنيد رحمه الله حيث سئل عن الصبر والشكر‏:‏ أيهما أفضل فقال‏:‏ ليس مدح الغني بالوجود ولا مدح الفقير بالعدم وإنما المدح في الاثنين قيامهما بشروط ما عليهما فشرط الغنى يصحبه فيما عليه أشياء تلائم صفته وتمتعها وتلذذها والفقير يصحبه فيما عليه أشياء تلائم صفته وتقبضها وتزعجها فإذا كان الاثنان قائمين لله تعالى بشرط ما عليهما كان الذي ألم صفته وأزعجها أتم حالاً ممن متع صفته ونعمها والأمر على ما قاله وهو صحيح من جملة أقسام الصبر والشكر في القسم الأخير الذي ذكرناه وهو لم يرد سواه‏.‏

ويقال‏:‏ كان أبو العباس بن عطاء قد خالفه في ذلك وقال‏:‏ الغني الشاكر أفضل من الفقير الصابر فدعا عليه الجنيد فأصابه ما أصابه من البلاء من قتل أولاده وإتلاف أمواله وزوال عقله أربع عشرة سنة فكان يقول‏:‏ دعوة الجنيد أصابتني ورجع إلى تفضيل الفقير الصابر على الغني الشاكر‏.‏

ومهما لاحظت المعاني التي ذكرناها علمت أن لكل واحد من القولين وجهاً في بعض الأحوال فرب فقير صابر أفضل من غني شاكر كما سبق ورب غني شاكر أفضل من فقير صابر وذلك هو الغني الذي يرى نفسه مثل الفقير إذ لا يمسك لنفسه من المال إلا قدر الضرورة والباقي يصرفه إلى الخيرات أو يمسكه على اعتقاد أنه خازن للمحتاجين والمساكين وإنما ينتظر حاجة تسنح حتى يصرف إليها ثم إذا صرف لم يصرفه لطلب جاه وصيت ولا لتقليد منه بل أداء لحق الله تعالى في تفقد عباده فهذا أفضل من الفقير الصابر‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهذا لا يثقل على النفس والفقير يثقل عليه الفقر لأن هذا يستشعر لذة القدرة وذاك يستشعر ألم الصبر فإن كان متألماً بفراق المال فينجبر ذلك بلذته في القدرة على الإنفاق فاعلم أن الذي تراه أن من ينفق ماله عن رغبة وطيب نفس أكمل حالاً ممن ينفقه وهو بخيل به وإنما يقتطعه عن نفسه قهراً وقد ذكرنا تفصيل هذا فيما سبق من كتاب التوبة فإيلام النفس ليس مطلوباً لعينه بل لتأديبها وذلك يضاهي ضرب كلب الصيد والكلب المتأدب أكمل من الكلب المحتاج إلى الضرب وإن كان صابراً على الضرب ولذلك يحتاج إلى الإيلام والمجاهدة في البداية ولا يحتاج إليهما في النهاية بل النهاية أن يصير ما كان مؤلماً في حقه لذيذاً عنده كما يصير التعلم عند الصبي العاقل لذيذاً‏.‏

وقد كان مؤلماً له أولاً ولكان لما كان الناس كلهم إلا الأقلين في البداية - بل قبل البداية بكثير - كالصبيان أطلق الجنيد القول بأن الذي يؤلم صفته أفضل وهو كما قال صحيح فيما أراده من عموم الخلق فإذن إذا كنت لا تفصل الجواب وتطلقه لإرادة الأكثر فأطلق القول بأن الصبر أفضل من الشكر فإنه صحيح بالمعنى السابق إلى الأفهام فإذا أردت التحقيق ففصل فإن للصبر درجات أقلها ترك الشكوى مع الكراهية ووراءها الرضا وهو الرضا وهو مقام وراء الصبر ووراءه الشكر على البلاء وهو وراء الرضا إذ الصبر مع التألم والرضا يمكن بما لا ألم فيه ولا فرح والشكر لا يمكن إلا على محبوب مفروح به وكذلك الشكر درجات كثيرة ذكرنا أقصاها ويدخل في جملتها أمور دونها فإن حياء العبد من تتابع نعم الله عليه شكر ومعرفته بتقصيره عن الشكر شكر والاعتذار من قلة الشكر شكر والمعرفة بعظيم حلم الله وكنف ستره شكر والاعتراف بأن النعم ابتداء من الله تعالى من غير استحقاق شكر والعلم بأن الشكر أيضاً نعمة من نعم الله وموهبة منه شكر وحسن التواضع للنعم والتذلل فيها شكر وشكر الوسائط شكر إذ قال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ من لم يشكر الناس لم يشكر الله ‏"‏ وقد ذكرنا حقيقة ذلك في كتاب أسرار الزكاة وقلة الاعتراض وحسن الأدب بين يدي المنعم شكر وتلقي النعم بحسن القبول واستعظام صغيرها شكر‏.‏

وما يندرج من الأعمال والأحوال تحت اسم الشكر والصبر لا تنحصر آحادها وهي درجات مختلفة فكيف يمكن إجمال القول بتفضيل أحدهما على الآخر إلا على سبيل إرادة الخصوص باللفظ العام كما ورد في الأخبار والآثار‏.‏

وقد روي عن بعضهم أنه قال‏:‏ رأيت في بعض الأسفار شيخاً كبيراً قد طعن في السن فسألته عن حاله فقال‏:‏ إني كنت في ابتداء عمري أهوى ابنة عم لي وهي كذلك كانت تهواني فاتفق أنها زوجت مني فليلة زفافها قلت‏:‏ تعالى حتى نحيي هذه الليلة شكراً لله تعالى على ما جمعنا فصلينا تلك الليلة ولم يتفرغ أحدنا إلى صاحبه فلما كانت الليلة الثانية قلنا مثل ذلك فصلينا طوال الليل فمنذ سبعين أو ثمانين سنة نحن على تلك الحالة كل ليلة أليس كذلك يا فلانة قالت العجوز‏:‏ هو كما يقول الشيخ فانظر إليهما لو صبرا على بلاء الفرقة أو لو لم يجمع الله بينهما وانسب صبر الفرقة إلى شكر الوصال على هذا الوجه فلا يخفى عليك أن هذا

كتاب الخوف والرجاء

وهو الكتاب الثالث من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله المرجو لطفه وثوابه المخوف مكره وعقابه الذي عمر قلوب أوليائه بروح رجائه حتى ساقهم بلطائف آلائه إلى النزول بفنائه والعدول عن دار بلائه التي هي مستقر أعدائه وضرب بسياط التخويف وزجره العنيف وجوه المعرضين عن حضرته إلى دار ثوابه وكرامته وصدهم عن التعرض لأئمته والتهدف لسخطه ونقمته قوداً لأصناف الخلق بسلاسل القهر والعنف وأزمة الرفق واللطف إلى جنته والصلاة والسلام على محمد سيد أنبيائه وخير خليفته وعلى آله وأصحابه وعترته‏.‏

أما بعد فإن الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كئود فلا يقود إلى قرب الرحمن وروح الجنان مع كونه بعيد الأرجاء ثقيل الأعباء محفوفاً بمكاره القلوب ومشاق الجوارح والأعضاء - إلا أزمة الرجاء‏.‏

ولا يصد عن نار الجحيم والعذاب الأليم - مع كونه محفوفاً بلطائف الشهوات وعجائب اللذات - إلا سياط التخويف وسطوات التعنيف فلا بد إذن من بيان حقيقتهما وفضيلتهما وسبيل التوصل إلى الجمع بينها مع تضادهما وتعاندهما‏.‏

ونحن نجمع ذكرهما في كتاب واحد يشمل على شطرين الشطر الأول في الرجاء والشطر الثاني في الخوف‏.‏

الشطر الأول في الرجاء أما الشطر الأول فيشتمل على بيان حقيقة الرجاء وبيان فضيلة الرجاء وبيان دواء الرجاء والطرق الذي يجتلب به الرجاء‏.‏

بيان حقيقة الرجاء

اعلم أن الرجاء من جملة مقامات السالكين وأحوال الطالبين وإنما يسمى الوصف مقاماً إذا ثبت وأقام وإنما يسمى حالاً إذا كان عارضاً سريع الزوال وكما أن الصفرة تنقسم إلى ثابتة كصفرة الذهب وإلى سريعة الزوال كصفرة الوجل وإلى ما هو بينهما كصفرة المريض فكذلك صفات القلب تنقسم هذه الأقسام فالذي هو غير ثابت يسمى حالاً لأنه يحول على القرب وهذا جار في كل وصف من أوصاف القلب وغرضنا الآن حقيقة الرجاء فالرجاء أيضاً يتم من حال وعلم وعمل فالعلم سبب يثمر الحال‏.‏

والحال يقتضي العمل وكان الرجاء اسماً من جملة الثلاثة وبيانه‏:‏ أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب فينقسم إلى موجود في الحال وإلى موجود فيما مضى وإلى منتظر في الاستقبال فإذا خطر ببالك موجود فيما مضى سمي ذكراً وتذكراً وإن كان ما خطر بقلبك موجوداً في الحال سمي وجداً وذوقاً وإدراكاً وإنما سمي وجداً لأنها حالة تجدها في نفسك وإن كان قد خطر ببالك وجود شيء في الاستقبال وغلب ذلك على قلبك سمي انتظاراً وتوقعاً فإن كان المنتظر مكروهاً حصل منه ألم في القلب سمي خوفاً وإشفاقاً وإن كان محبوباً حصل من انتظاره وتعلق القلب به وإخطار وجوده بالبال لذة في القلب وارتياح سمي ذل الارتياح رجاء فالرجاء هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده ولكن ذلك المحبوب المتوقع لا بد وأن يكون له سبب فإن كان انتظاره لأجل حصول أكثر أسبابه فاسم الرجاء عليه صادق وإن كان ذلك انتظاراً مع انحزام أسبابه واضطرابها فاسم الغرور والحمق عليه أصدق من اسم الرجاء وإن لم تكن الأسباب معلومة الوجود ولا معلومة الانتفاء فاسم التمني أصدق على انتظاره لأنه انتظار من غير سبب وعلى كل حال فلا يطلق اسم الرجاء والخوف إلا على ما يتردد فيه أما ما يقطع به فلا إذ لا يقال‏:‏ أرجو طلوع الشمس وقت الطلوع وأخاف غروبها وقت الغروب لأن ذلك مقطوع به نعم يقال‏:‏ أرجو نزول المطر وأخاف انقطاعه وقد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة والقلب كالأرض والإيمان كالبذر فيه والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها ومجرى حفر الأنهار وسياقة الماء إليها والقلب المستهتر بالدنيا المستغرق بها كالأرض السبخة التي لا ينمو فيها البذر ويوم القيامة يوم الحصاد ولا يحصد أحد إلا ما زرع ولا ينمو زرع إلا من بذر الإيمان وقلما ينفع إيمان مع خبث القلب وسوء أخلاقه كما لا ينمو بذر في أرض سبخة فينبغي أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع فكل من طلب أرضاً طيبة وألقى فيها بذراً جيداً غير عفن ولا مسوس ثم أمده بما يحتاج إليه وهو سوق الماء إليه في أوقاته ثم نقي الشوك عن الأرض والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر أو يفسده ثم جلس منتظراً من فضل الله تعالى دفع الصواعق والآفات المفسدة إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته‏:‏ سمي انتظاره رجاء‏.‏

وإن بث البذر في أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصب إليها الماء ولم يشتغل بتعهد البذر أصلاً ثم انتظر الحصاد منه‏:‏ سمي انتظاره حمقاً وغروراً لا رجاء‏.‏

وإن بث البذر في أرض طيبة لكن لا ماء لها وأخذ ينتظر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا تمتنع أيضاً‏:‏ سمي انتظاره تمنياً لا رجاء فإذن اسم الرجاء إنما يصدق على انتظار محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد ولم يبق إلا ما ليس يدخل تحت اختياره وهو فضل الله تعالى بصرف القواطع والمفسدات فالعبد إذا بث بذر الإيمان وسقاه بماء الطاعات وطهر القلب عن شوك الأخلاق الرديئة وانتظر من فضل الله تعالى تثبيته على ذلك إلى الموت وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة‏:‏ وكان انتظاره رجاءً حقيقياً محموداً في نفسه باعثاً له على المواظبة والقيام بمقتضى أسباب الإيمان في إتمام أسباب المغفرة إلى الموت‏:‏ وإن قطع عن بذر الإيمان تعهده بماء الطاعات وترك القلب مشحوناً برذائل الأخلاق وانهمك في طلب لذات الدنيا ثم انتظر المغفرة فانتظاره حمق وغرور قال صلى الله عليه وآله وسلم‏:‏ ‏"‏ الأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الجنة ‏"‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا ‏"‏‏.‏

وذم الله تعالى صاحب البستان إذ دخل جنته وقال‏:‏ ‏"‏ ما أظن أن تبيد هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً ‏"‏‏.‏

فإذن العبد المجتهد في الطاعات المجتنب للمعاصي حقيق أن ينتظر من فضل الله تمام النعمة وما تمام النعمة إلا بدخول الجنة‏.‏

وأما العاصي فإذا تاب وتدارك جميع ما فرط منه من تقصير

فحقيق بأن يرجو قبول التوبة‏.‏

وأما قبل التوبة إذا كان كارهاً للمعصية تسوءه السيئة وتسره الحسنة وهو يذم نفسه ويلومها ويشتهي التوبة ويشتاق إليها فحقيق بأن يرجو من الله التوفيق للتوبة لأن كراهيته المعصية وحرصه على التوبة يجري مجرى السبب الذي قد يفضي إلى التوبة وإنما الرجاء بعد تأكد الأسباب ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله ‏"‏ معناه أولئك يستحقون أن يرجوا رحمة الله وما أراد به تخصيص وجود الرجاء لأن غيرهم أيضاً قد يرجو ولكن خصص بهم استحقاق الرجاء فأما من ينهمك فيما يكرهه الله تعالى ولا يذم نفسه عليه ولا يعزم على التوبة والرجوع فرجاؤه المغفرة حمق كرجاء من بث البذر في أرض سبخة وعزم على أن لا يتعهده بسقي ولا تنقية‏.‏

قال يحيى بن معاذ‏:‏ من أعظم الاغترار عندي التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة وانتظار زرع الجنة ببذر النار وطلب دار المطيعين بالمعاصي وانتظار الجزاء بغير عمل والتمني على الله عز وجل مع الإفراط‏:‏ ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس فإذا عرفت حقيقة الرجاء ومظنته فقد علمت أنها حالة أثمرها العلم بجريان أكثر الأسباب وهذه الحالة تثمر الجهد للقيام ببقية الأسباب على حسب الإمكان فإن من حسن بذره وطابت أرضه وغزر ماؤه صدق رجاؤه فلا يزال يحمله صدق الرجاء على تفقد الأرض وتعهدها وتنحية كل حشيش ينبت فيها فلا يفتر عن تعهدها أصلاً إلى وقت الحصاد وهذا لأن الرجاء يضاده اليأس واليأس يمنع من التعهد فمن عرف أن الأرض سبخة وأن الماء معوز وأن البذر لا ينبت فيترك لا محالة تفقد الأرض والتعب في تعهدها والرجاء محمود لأنه باعث واليأس مذموم وهو ضده لأنه صارف عن العمل والخوف ليس بضد للرجاء بل هو رفيق له كما سيأتي بيانه بل هو باعث آخر بطريق الرهبة كما أن الرجاء باعث بطريق الرغبة فإذن حال الرجاء يورث طول المجاهدة بالأعمال والمواظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال ومن آثاره التلذذ بدوام الإقبال على الله تعالى والتنعم بمناجاته والتلطف في التملق له فإن هذه الأحوال لا بد وأن تظهر على كل من يرجو ملكاً من الملوك أو شخصاً من الأشخاص فكيف لا يظهر ذلك في حق الله تعالى فإن كان لا يظهر فليستدل به على الحرمان عن مقام الرجاء والنزول في حضيض الغرور والتمني فهذا هو البيان لحال الرجاء ولما أثمره من العلم ولما استثمر منه من العمل ويدل على إثماره لهذه الأعمال حديث زيد الخيل إذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ جئت لأسألك عن علامة الله فيمن يريد وعلامته فيمن لا يريد فقال‏:‏ ‏"‏ كيف أصبحت ‏"‏ قال‏:‏ أصبحت أحب الخير وأهله وإذا قدرت على شيء منه سارعت إليه وأيقنت بثوابه وإذا فاتني منه شيء حزنت عليه وحننت إليه‏.‏

فقال‏:‏ ‏"‏ هذه علامة الله فيمن يريد ولو أرادك للأخرى هيأك لها ثم لا يبالي في أي أوديتها هلكت ‏"‏ فقد ذكر صلى الله عليه وسلم علامة من أريد به الخير فمن ارتجى أن يكون مراداً بالخير من غير هذه العلامات فهو مغرور‏.‏

بيان فضيلة الرجاء والترغيب فيه

اعلم أن العمل على الرجاء أعلى منه على الخوف لأن أقرب العباد إلى الله تعالى أحبهم له والحب يغلب الرجاء واعتبر ذلك بملكين يخدم أحدهما خوفاً من عقابه والآخر رجاء لثوابه

ولذلك ورد في الرجاء وحسن الظن رغائب لا سيما في وقت الموت‏:‏ قال تعالى ‏"‏ لا تقنطوا من رحمة الله ‏"‏ فحرم أصل اليأس‏.‏

وفي أخبار يعقوب عليه السلام أن الله تعالى أوحى إليه‏:‏ أتدري لم فرقت بينك وبين يوسف لأنك قلت أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون لم خفت الذئب ولم ترجني ولم نظرت إلى غفلة أخوته ولم تنظر إلى حفظي له‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى ‏"‏‏.‏

ودخل صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في النزع فقال‏:‏ ‏"‏ كيف تجدك ‏"‏ فقال‏:‏ أجدني أخاف ذنوبي وأرجو رحمة ربي‏.‏

فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما رجا وأمنه مما يخاف ‏"‏‏.‏

وقال علي رضي الله عنه لرجل أخرجه الخوف إلى القنوط لكثرة ذنوبه‏:‏ يا هذا يأسك من رحمة الله أعظم من ذنوبك‏.‏

وقال سفيان‏:‏ من أذنب ذنباً فعلم أن الله تعالى قدره عليه ورجاء غفرانه غفر الله له ذنبه‏.‏

قال‏:‏ لأن الله عز وجل عير قوماً فقال‏:‏ ‏"‏ وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وظننتم ظن السوء وكنتم قوماً بوراً ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة‏:‏ ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره فإن لقنه الله حجته قال‏:‏ يا رب رجوتك وخفت الناس‏.‏

قال‏:‏ فيقول الله تعالى‏:‏ قد غفرته لك ‏"‏‏.‏

وفي الخبر الصحيح‏:‏ أن رجلاً كان يداين الناس فيسامح الغني ويتجاوز عن المعسر فلقي الله ولم يعمل خيراً قط فقال الله عز وجل‏:‏ من أحق بذلك منا فعفا عنه لحسن ظنه ورجائه أن يعفو عنه مع إفلاسه عن الطاعات‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ‏"‏‏.‏

ولما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولخرجتم إلى الصعدات تلدمون صدوركم وتجأرون إلى ربكم فهبط جبريل عليه السلام فقال‏:‏ إن ربك يقول لك لم تقنط عبادي فخرج عليهم ورجاهم وشوقهم‏.‏

وفي الخبر‏:‏ إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام‏:‏ أحبني وأحب من يحبني وحببني إلى خلقي‏.‏

فقال‏:‏ يا رب كيف أحببك إلى خلقك قال‏:‏ اذكرني بالحسن الجميل واذكر آلائي وإحساني وذكرهم ذلك فإنهم لا يعرفون مني إلا الجميل‏.‏

ورثى أبان بن أبي عياش في النوم وكان يكثر ذكر أبواب الرجاء فقال‏:‏ أوقفني الله تعالى بين يديه فقال‏:‏ ما الذي حملك على ذلك فقلت‏:‏ أردت أن أحببك إلى خلقك فقال‏:‏ قد غفرت لك‏.‏ ورثى يحيى بن أكثم بعد موته في النوم فقيل له‏:‏ ما فعل الله بك فقال‏:‏ أوقفني الله بين يديه وقال‏:‏ يا شيخ السوء فعلت وفعلت وقال‏:‏ فأخذني من الرعب ما يعلم الله ثم قلت‏:‏ يا رب ما هكذا حدثت عنك فقال‏:‏ وما حدثت عني فقلت‏:‏ حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس عن نبيك صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام أنك قلت‏:‏ أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء وكنت أظن بك أن لا تعذبني فقال الله عز وجل‏:‏ صدق جبريل وصدق نبيي وصدق أنس وصدق الزهري وصدق معمر وصدق عبد الرزاق وصدقت‏.‏

قال‏:‏ فألبست ومشى بين يدي الولدان إلى الجنة فقلت‏:‏ يا لها من فرحة‏.‏

وفي الخبر‏:‏ ‏"‏ أن رجلاً من بني إسرائيل كان يقنط الناس ويشدد عليهم قال‏:‏ فيقول له الله تعالى يوم القيامة‏:‏ اليوم أويسك منم رحمتي كما كنت تقنط عبادي منها ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن رجلاً يدخل النار فيمكث فيها ألف سنة ينادي‏:‏ يا حنان يا منان فيقول الله تعالى لجبريل‏:‏ اذهب فائتني بعبدي‏.‏

قال فيجيء به فيوقفه على ربه فيقول الله تعالى‏:‏ كيف وجدت مكانك فيقول‏:‏ شر مكان‏.‏

قال‏:‏ فيقول ردوه إلى مكانه‏.‏

قال‏:‏ فيمشي إلى ورائه فيقول الله عز وجل‏:‏ إلى أي شيء تلتفت‏!‏ فيقول‏:‏ لقد رجوت أن لا تعيدني إليها بعد إذ أخرجتني منها فيقول الله تعالى‏:‏ اذهبوا به إلى الجنة ‏"‏ فدل هذا على أن رجاءه كان سبب نجاته نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه‏.‏

بيان دواء الرجاء والسبيل الذي يحصل منه حال الرجاء ويغلب

اعلم أن هذا الدواء يحتاج إليه أحد رجلين‏:‏ إما رجل غلب عليه اليأس فترك العبادة وإما رجل غلب عليه الخوف فأسرف في المواظبة على العبادة حتى أضر بنفسه وأهله وهذا رجلان مائلان عن الاعتدال إلى طرفي الإفراط والتفريط فيحتاجان إلى علاج يردهما إلى الاعتدال فأما العاصي المغرور المتمني على الله مع الإعراض عن العبادة واقتحام المعاصي فأدوية الرجاء تنقلب سموماً مهلكة في حقه وتنزل منزلة العسل الذي هو شفاء لمن غلب عليه البرد وهو سم مهلك لمن غلب عليه الحرارة بل المغرور لا يستعمل في حقه إلا أدوية الخوف والأسباب المهيجة له فلهذا يجب أن يكون واعظ الخلق متلطفاً ناظراً إلى مواقع العلل معالجاً لكل علة بما يضادها لا بما يزيد فيها فإن المطلوب هو العدل والقصد في الصفات والأخلاق كلها وخير الأمور أوساطها فإذا جاوز الوسط إلى أحد الطرفين عولج بما يرده إلى الوسط لا بما يزيد في ميله عن الوسط وهذا الزمان زمان لا ينبغي أن يستعمل فيه مع الخلق أسباب الرجاء بل المبالغة في التخويف أيضاً تكاد أن لا تردهم إلى جادة الحق وسنن الصواب فأما ذكر أسباب الرجاء فيهلكهم ويرديهم بالكلية ولكنها لما كانت أخف على القلوب وألذ عند النفوس ولم يكن غرض الوعاظ إلا استمالة القلوب واستنطاق الخلق بالثناء كيفما كانوا مالوا إلى الرجاء حتى ازداد الفساد فساداً وازداد المنهمكون في طغيانهم تمادياً‏.‏

قال علي كرم الله وجهه‏:‏ إنما العالم الذي لا يقنط الناس من رحمة الله تعالى ولا يؤمنهم من مكر الله‏.‏

ونحن نذكر أسباب الرجاء لتستعمل في حق الآيس أو فيمن غلب عليه الخوف اقتداءً بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهما مشتملان على الخوف والرجاء جميعاً لأنهما جامعان لأسباب الشفاء في حق أصناف المرضى ليستعمله العلماء الذين هم ورثة الأنبياء بحسب الحاجة استعمال الطبيب الحاذق لا استعمال الأخرق الذي يظن أن كل شيء من الأدوية صالح لكل مريض كيفما كان‏.‏

وحال الرجاء يغلب بشيئين‏:‏ أحدهما الاعتبار والآخر استقراء الآيات والأخبار والآثار‏.‏

أما الاعتبار فهو أن يتأمل جميع ما ذكرناه في أصناف النعم من كتاب الشكر حتى إذا علم لطائف نعم الله تعالى لعباده في الدنيا وعجائب حكمه التي راعاها في فطرة الإنسان حتى أعد له في الدنيا كل ما هو ضروري له في دوام الوجود كآلات الغذاء وما هو محتاج إليه كالأصابع والأظفار وما هو زينة له كاستقواس الحاجبين واختلاف ألوان العينين وحمرة الشفتين وغير ذلك مما كان لا ينثلم بفقده غرض مقصود وإنما كان يفوت به مزية جمال فالعناية الإلهية إذا لم تقصر عن عباده في أمثال هذه الدقائق حتى لم يرض لعباده أن تفوتهم المزايد والمزايا في الزينة والحاجة كيف يرضى بسياقهم إلى الهلاك المؤبد بل إذا نظر الإنسان نظراً شافياً علم أن أكثر الخلق قد هيئ له أسباب السعادة في الدنيا حتى إنه يكره الانتقال من الدنيا بالموت وإن أخبر بأنه لا يعذب بعد الموت أبداً مثلاً أولا يحشر أصلاً فليست كراهتهم للعدم إلا لأن أسباب النعم أغلب لا محالة وإنما الذي يتمنى الموت نادر ثم لا يتمناه إلا في حال نادرة ورافعة هاجمة غريبة فإذا كان حال أكثر الخلق في الدنيا الغالب عليه الخير والسلامة فسنة الله لا تجد لها تبديلاً فالغالب أن أمر الآخرة هكذا يكون لأن مدبر الدنيا والآخرة واحد وهو غفور رحيم لطيف بعباده متعطف عليهم فهذا إذا تؤمل حق التأمل قوي به أسباب الرجاء ومن الاعتبار أيضاً النظر في حكمة الشريعة وسنتها في مصالح الدنيا ووجه الرحمة للعباد بها حتى كان بعض العارفين يرى آية المداينة في البقرة من أقوى أسباب الرجاء‏.‏

فقيل له‏:‏ وما فيها من الرجاء فقال‏:‏ الدنيا كلها

قليل ورزق الإنسان منها قليل والدين قليل عن رزقه فانظر كيف أنزل الله تعالى فيه أطول آية ليهدي عبده إلى طريق الاحتياط في حفظ دينه فكيف لا يحفظ دينه الذي لا عوض له منه الفن الثاني‏:‏ استقراء الآيات والأخبار فما ورد في الرجاء خارج عن الحصر أما الآيات فقد قال تعالى ‏"‏ قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ‏"‏‏.‏

وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض ‏"‏‏.‏

وأخبر تعالى أن النار أعدها لأعدائه وإنما خوف بها أولياءه فقال ‏"‏ لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده ‏"‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ واتقوا النار التي أعدت للكافرين ‏"‏‏.‏

وقال تعالى ‏"‏ فأنذرتكم ناراً تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى ‏"‏‏.‏

وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم ‏"‏‏.‏

ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يسأل في أمته حتى قيل له‏:‏ أما ترضى وقد أنزلت عليك هذه الآية ‏"‏ وإن ربك لذو مغفرة للناس ظلمهم ‏"‏‏.‏

وفي تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولسوف يعطيك ربك فترضى ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ لا يرضى محمد وواحد من أمته في النار ‏"‏‏.‏

وكان أبو جعفر محمد بن علي يقول‏:‏ أنتم أهل العراق تقولون أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله ‏"‏ قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ‏"‏ الآية ونحن أهل البيت نقول أرجى آية في كتاب الله تعالى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولسوف يعطيك ربك فترضى ‏"‏ وأما الأخبار فقد روى أبو موسى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ أمتي أمة مرحومة لا عذاب عليها في الآخرة عجل الله عقابها في الدنيا‏:‏ الزلازل والفتن فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من أمتي رجل من أهل الكتاب فقيل‏:‏ هذا فداؤك من النار ‏"‏‏.‏

وفي لفظ آخر ‏"‏ يأتي كل رجل من هذه الأمة بيهودي أو نصراني إلى جهنم فيقول‏:‏ هذا فدائي من النار فيلقى فيها ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الحمى من قبيح جهنم وهي حظ المؤمن من النار ‏"‏‏.‏

وروي في تفسير قوله تعالى ‏"‏ يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه ‏"‏ أن الله تعالى أوحى إلى نبيه عليه الصلاة والسلام‏:‏ إني أجعل حساب أمتك إليك‏.‏

قال ‏"‏ لا يا رب أنت أرحم بهم مني ‏"‏ فقال‏:‏ ‏"‏ إذن لا نخزيك فيهم ‏"‏‏.‏

وروي عن أنس‏:‏ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه في ذنوب أمته فقال‏:‏ ‏"‏ يا رب اجعل حسابهم إلي لئلا يطلع على مساويهم غيري ‏"‏ فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ هم أمتك وهم عبادي وأنا أرحم بهم منك لا أجعل حسابهم إلى غيري لئلا تنظر إلى مساويهم أنت ولا غيرك‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ حياتي خير لكم وموتي خير لكم أما حياتي فأسن لكم السنن وأشرع لكم الشرائع وأما موتي فإن أعمالكم تعرض علي فما رأيت منها حسناً حمدت الله عليه وما رأيت منها سيئاً استغفرت الله تعالى لكم ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم يوماً‏:‏ ‏"‏ يا كريم العفو ‏"‏ فقال جبريل عليه السلام‏:‏ أتدري ما تفسير‏:‏ يا كريم العفو هو إن عفا عن السيئات برحمته بدلها حسنات بكرمه‏.‏

وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول‏:‏ اللهم إني أسألك تمام النعمة فقال‏:‏ ‏"‏ هل تدري ما تمام النعمة قال‏:‏ لا قال‏:‏ ‏"‏ دخول الجنة ‏"‏‏.‏

قال العلماء‏:‏ قد أتم الله علينا نعمته برضاه الإسلام لنا إذ قال تعالى ‏"‏ وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً ‏"‏‏.‏

وفي الخبر ‏"‏ إذا أذنب العبد ذنباً فاستغفر الله يقول الله عز وجل لملائكته‏:‏ انظروا إلى عبدي أذنب ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنوب ويأخذ بالذنب أشهدكم أني قد غفرت له ‏"‏‏.‏

وفي الخبر ‏"‏ لو أذنب العبد حتى تبلغ ذنوبه عنان السماء غفرتها له ما استغفرني ورجاني‏"‏‏.‏

وفي الخبر ‏"‏ لو لقيني عبدي بقراب الأرض ذنوباً لقيته بقراب الأرض مغفرة ‏"‏‏.‏

وفي الحديث ‏"‏ أن الملك ليرفع القلم عن العبد إذا أذنب ست ساعات فإن تاب واستغفر لم يكتبه عليه وإلا كتبها سيئة ‏"‏‏.‏

وفي لفظ آخر‏:‏ ‏"‏ فإذا كتبها عليه وعمل حسنة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال وهو أمير عليه‏:‏ ألق هذه السيئة حتى ألقى من حسناته واحدة تضعيف العشر وأرفع له تسع حسنات فتلقي عنه السيئة ‏"‏‏.‏

وروى أنس في حديث أنه عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ ‏"‏ إذا أذنب العبد ذنباً كتب عليه ‏"‏ فقال أعرابي‏:‏ وإن تاب عنه قال‏:‏ ‏"‏ محي عنه ‏"‏ قال‏:‏ فإن عاد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يكتب عليه ‏"‏ قال الأعرابي‏:‏ فإن تاب قال‏:‏ ‏"‏ محي من صحيفته ‏"‏ قال‏:‏ إلى متى قال‏:‏ ‏"‏ إلى أن يستغفر ويتوب إلى الله عز وجل إن الله لا يمل من المغفرة حتى يمل العبد من الاستغفار فإذا هم العبد بحسنة كتبها صاحب اليمين حسنة قبل أن يعملها فإن عملها كتبت عشر حسنات ثم يضاعفها الله سبحانه وتعالى إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بخطيئة لم تكتب عليه فإذا عملها كتبت خطيئة واحدة ووراءها حسن عفو الله عز وجل ‏"‏‏.‏

وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إني لا أصوم إلا الشهر لا أزيد عليه ولا أصلي إلا الخمس لا أزيد عليها وليس لله في مالي صدقة ولا حج ولا تطوع‏:‏ أين أنا إذا مت فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏ نعم معي إذا حفظت قلبك من اثنين‏:‏ الغل والحسد ولسانك من اثنين‏:‏ الغيبة والكذب‏.‏

وعينيك من اثنتين‏:‏ النظر إلى ما حرم وفي الحديث الطويل لأنس‏:‏ أن الأعرابي قال‏:‏ يا رسول الله من يلي حساب الخلق فقال‏:‏ ‏"‏ الله تبارك وتعالى ‏"‏ قال هو بنفسه قال‏:‏ ‏"‏ نعم ‏"‏ فتبسم الأعرابي فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مم ضحكت يا أعرابي ‏"‏ فقال‏:‏ إن الكريم إذا قدر عفا وإذا حاسب سامح فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ صدق الأعرابي ألا لا كريم أكرم من الله تعالى هو أكرم الأكرمين ‏"‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ فقه الأعرابي ‏"‏ وفيه أيضاً‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى شرف الكعبة وعظمها ولو أن عبداً هدمها حجراً حجراً ثم أحرقها ما بلغ جرم من استخف بوليٍّ من أولياء الله تعالى ‏"‏ قال الأعرابي‏:‏ ومن أولياء الله تعالى قال‏:‏ ‏"‏ المؤمنون كلهم أولياء الله تعالى أما سمعت قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور ‏"‏ وفي بعض الأخبار‏:‏ ‏"‏ المؤمن أفضل من الكعبة ‏"‏ و ‏"‏ المؤمن طيب طاهر ‏"‏ و ‏"‏ المؤمن أكرم على الله تعالى من الملائكة ‏"‏‏.‏

وفي الخبر ‏"‏ خلق الله تعالى جهنم من فضل رحمته سوطاً يسوق الله به عباده إلى الجنة ‏"‏‏.‏

وفي خبر آخر‏:‏ ‏"‏ يقول الله عز وجل‏:‏ إنما خلقت الخلق ليربحوا علي ولم أخلقهم لأربح عليهم ‏"‏‏.‏

وفي حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما خلق الله تعالى شيئاً إلا جعل له ما يغلبه وجعل رحمته تغلب غضبه ‏"‏‏.‏

وفي الخبر المشهور‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة قبل أن يخلق الخلق‏:‏ إن رحمتي تغلب وعن معاذ بن جبل وأنس بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من قال لا إله إلا الله دخل الجنة ‏"‏‏.‏

و ‏"‏ من كان آخر كلامه لا إله إلا الله لم تمسه النار ‏"‏‏.‏

و ‏"‏ من لقي الله لا يشرك به شيئاً حرمت عليه النار ‏"‏‏.‏

و ‏"‏ لا يدخلها من في قلبها مثقال ذرة من إيمان ‏"‏‏.‏

وفي خبر آخر ‏"‏ لو علم الكافر سعة رحمة الله ما آيس من جنته أحد ‏"‏‏.‏

ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى ‏"‏ إن زلزلة الساعة شيء عظيم ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ أتدرون أي يوم هذا هذا يوم يقال لآدم عليه الصلاة والسلام‏:‏ قم فابعث بعث النار من ذريتك فيقول‏:‏ كم فيقال‏:‏ من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة‏.‏

قال‏:‏ فأبلس القوم يبكون وتعطلوا يومهم عن الاشتغال والعمل فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏ ما لكم لا تعملون ‏"‏ فقالوا‏:‏ ومن يشتغل بعمل بعد ما حدثتنا بهذا فقال‏:‏ ‏"‏ كم أنتم في الأمم أين تأويل وثاريث ومنسك ويأجوج ومأجوج أمم لا يحصيها إلا الله تعالى إنما أنتم في سائر الأمم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود وكالرقمة في ذراع الدابة ‏"‏ فانظر كيف كان الخوف يسوق الخلق بسياط الخوف ويقودهم بأزمة الرجاء إلى الله تعالى إذ ساقهم بسياط الخوف أولاً فلما خرج ذلك بهم عن حد الاعتدال إلى إفراط اليأس داواهم بدواء الرجاء وردهم إلى الاعتدال والقصد والآخر لم يكن مناقضاً للأول ولكن ذكر في الأول ما رآه سبباً للشفاء واقتصر عليه فلما احتاجوا إلى المعالجة بالرجاء ذكر تمام الأمر فعلى الواعظ أن يقتدي بسيد الوعاظ فيتلطف في استعمال أخبار الخوف والرجاء بحسب الحاجة بعد ملاحظة العلل الباطنة وإن لم يراع ذلك كان ما يفسد بوعظه أكثر مما يصلحه وفي الخبر ‏"‏ لو لم تذنبوا لخلق الله خلقاً يذنبون فيغفر لهم ‏"‏ وفي لفظ آخر ‏"‏ لذهب بكم وجاء بخلق يذنبون فيغفر لهم إنه هو الغفور الرحيم ‏"‏‏.‏

وفي الخبر ‏"‏ لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو شر من الذنوب ‏"‏ قيل‏:‏ وما هو قال‏:‏ ‏"‏ العجب ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ والذي نفسي بيده لله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها ‏"‏‏.‏

وفي الخبر ‏"‏ ليغفرن الله تعالى يوم القيامة مغفرة ما خطرت على قلب أحد حتى إن إبليس ليتطاول لها رجاء أن تصيبه ‏"‏‏.‏

وفي الخبر ‏"‏ إن لله تعالى مائة رحمة ادخر منها عنده تسعاً وتسعين رحمة وأظهر منها في الدنيا رحمة واحدة فبها يتراحم الخلق فتحن الوالدة على ولدها وتعطف البهيمة على ولدها‏.‏

فإذا كان يوم القيامة ضم هذه الرحمة إلى التسع والتسعين ثم بسطها على جميع خلقه وكل رحمة منها وفي الخبر ‏"‏ ما منكم من أحد يدخله عمله الجنة ولا ينجيه من النار ‏"‏ قالوا‏:‏ ولا أنت يا رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته ‏"‏‏.‏

وقال عليه أفضل الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ اعملوا وابشروا واعلموا أن أحداً لن ينجيه عمله ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي أترونها للطيعين المتقين بل هي للمتلوثين المخلطين ‏"‏‏.‏

وقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم وعلى كل عبد مصطفى‏:‏ ‏"‏ أحب أن يعلم أهل الكتابين أن في ديننا سماحة ‏"‏‏.‏

ويدل على معناه استجابة الله تعالى للمؤمنين في قولهم ‏"‏ ولا تحمل عليناً إصراً ‏"‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ ويضع عنه إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ‏"‏‏.‏

وروى محمد بن الحنفية عن علي رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ لما نزل قوله تعالى ‏"‏ فاصفح الصفح الجميل ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ يا جبريل وما الصفح الجميل ‏"‏ قال عليه السلام‏:‏ إذا عفوت عمن ظلمك فلا تعاتبه فقال‏:‏ ‏"‏ يا جبريل فالله تعالى أكرم من أن يعاتب من عفا عنه ‏"‏ فبكى جبريل وبكى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الله تعالى إليهما ميكائيل عليه السلام وقال‏:‏ إن ربكما يقرئكما السلام ويقول‏:‏ كيف أعاتب من عفوت عنه هذا ما لا يشبه كرمي ‏"‏‏.‏

والأخبار الواردة في أسباب الرجاء أكثر من أن تحصى‏.‏

وأما الآثار‏:‏ فقد قال علي كرم الله وجهه‏:‏ من أذنب ذنباً فستره الله عليه في الدنيا فالله أكرم من أن يكشف ستره في الآخرة ومن أذنب ذنباً فعوقب عليه في الدنيا فالله تعالى أعدل من يثني عقوبته على عبده في الآخرة‏.‏

وقال الثوري‏:‏ ما أحب أن يجعل حسابي إلى أبوي لأني أعلم أن الله تعالى أرحم بي منهما‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ المؤمن إذا عصى الله تعالى عن أبصار الملائكة كيلا تراه فتشهد عليه‏.‏

وكتب محمد بن صعب إلى أسود بن سالم بخطه‏:‏ إن العبد إذا كان مسرفاً على نفسه فرفع يديه يدعو ويقول يا رب حجبت الملائكة صوته وكذا الثانية والثالثة حتى إذا قال الرابعة‏:‏ يا ربي قال الله تعالى‏:‏ حتى متى تحجبون عني صوت عبدي قد علم عبدي أنه ليس له رب يغفر له الذنوب غيري أشهدكم أني قد غفرت له‏.‏

وقال إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه‏:‏ خلالي الطواف ليلة وكانت ليلة مطيرة مظلمة فوقفت في الملتزم عند الباب فقلت‏:‏ يا رب اعصمني حتى لا أعصيك أبداً فهتف بي هاتف من البيت‏:‏ يا إبراهيم أنت تسألني العصمة وكل عبادي المؤمنين يطلبون مني ذلك فإذا عصمتهم فعلى من أتفضل ولمن أغفر وكان الحسن يقول‏:‏ لو لم يذنب المؤمن لكان يطير في ملكوت السموات ولكن الله تعالى قمعه وقال الجنيد رحمه الله تعالى‏:‏ إن بدت عين من الكرم ألحقت المسيئين بالمحسنين‏.‏

ولقي مالك بن دينار أبانًا فقال له‏:‏ إلى كم تحدث الناس بالرخص فقال‏:‏ يا أبا يحيى إني لأرجو أن ترى من عفو الله يوم القيامة ما تخرق له كساءك هذا من الفرح‏.‏

وفي حديث ربعي بن حراش عن أخيه - وكان من خيار التابعين وهو ممن تكلم بعد الموت - قال‏:‏ لما مات أخي سجي بثوبه وألقيناه على نعشه فكشف الثوب عن وجهه واستوى قاعداً وقال إني لقيت ربي عز وجل فحياني بروح وريحان وربي غير غضبان وإني رأيت الأمر أيسر مما تظنون فلا تفتروا وإن محمداً صلى الله عليه وسلم ينتظرني وأصحابه حتى أرجع إليهم‏.‏

قال‏:‏ ثم طرح نفسه فكأنها كانت حصاة وقعت في طشت فحملناه ودفناه‏.‏

وفي الحديث أن رجلين من بني إسرائيل تواخيا في الله تعالى فكان أحدهما يسرف على نفسه وكان الآخر عابداً وكان يعظه ويزجره فكان يقول‏:‏ دعني وربي أبعثت علي رقيباً حتى رآه ذات يوم على كبيرة فغضب فقال‏:‏ لا يغفر الله لك قال‏:‏ فيقول الله تعالى يوم القيامة‏:‏ أيستطيع أحد أن يحظر رحمتي على عبادي اذهب أنت فقد غفرت لك ثم يقول للعابد‏:‏ وأنت فقد أوجبت لك النار‏.‏

قال‏:‏ فوالذي نفسي بيده لقد تكلم بكلمة أهلكت دنياه وآخرته‏.‏

وروي أيضاً أن لصاً كان يقطع الطريق في بني إسرائيل أربعين سنة فمر عليه عيسى عليه السلام وخلفه عابد من عباد إسرائيل من الحواريين فقال اللص في نفسه‏:‏ هذا نبي الله يمر وإلى جنبه حواريه لو نزلت فكنت معهما ثالثاً قال‏:‏ فنزل يريد أن يدنو من الحواري ويزدري نفسه تعظيماً للحواري ويقول في نفسه‏:‏ مثلي لا يمشي إلى جنب هذا العابد قال‏:‏ وأحس الحواري به فقال في نفسه‏:‏ هذا يمشي إلى جانبي فضم نفسه ومشى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام فمشى بجنبه فبقي اللص خلفه فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام‏:‏ قل لهما ليستأنفا العمل فقان كلهم الأصلح لهم غلبة الخوف بشرط أن لا يخرجهم إلى اليأس وترك العمل وقطع الطمع من المغفرة فيكون ذلك سبباً للتكاسل عن العمل وداعياً إلى الانهماك في المعاصي فإن ذلك قنوط وليس بخوف إنما الخوف هو الذي يحث على العمل ويكدر جميع الشهوات ويزعج القلب عن الركون إلى الدنيا ويدعوه إلى التجافي عن دار الغرور فهو الخوف المحمود دون حديث النفس الذي لا يؤثر في الكف والحث ودون اليأس الموجب للقنوط‏.‏

وقد قال يحيى بن معاذ‏:‏ من عبد الله تعالى بمحض الخوف غرق في بحار الأفكار ومن عبده بمحض الرجاء تاه في مفازة الاغترار ومن عبده بالخوف والرجاء في محجة الادكار‏.‏

وقال مكحول الدمشقي‏:‏ من عبد الله بالخوف فهو حروري ومن عبده بالرجاء فهو مرجئ ومن عبده بالمحبة فهو زنديق ومن عبد بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحد‏.‏

فإذن لا بد من الجمع بين هذه الأمور وغلبة الخوف هو الأصلح ولكن قبل الإشراف على الموت أما عند الموت فالأصلح غلبة الرجاء وحسن الظن لأن الخوف جار مجرى السوط الباعث على العمل وقد انقضى وقت العمل فالمشرف على الموت لا يقدر على العمل ثم لا يطيق أسباب الخوف فإن ذلك يقطع نياط قلبه ويعين على تعجيل موته وأما روح الرجاء فإنه يقوي قلبه ويحبب إليه ربه الذي إليه رجاؤه ولا ينبغي أن يفارق أحد الدنيا إلا محباً لله تعالى للقاء الله تعالى فإن من أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه والرجاء تقارنه المحبة فمن ارتجى كرمه فهو محبوب والمقصود من العلوم والأعمال كلها معرفة الله تعالى حتى تثمر المعرفة المحبة فإن المصير إليه والقدوم بالموت عليه ومن قدم على محبوبه عظم سروره بقدر محبته ومن فارق محبوبه اشتدت محنته وعذابه فمهما كان القلب الغالب عليه عند الموت حب الأهل والولد والمال والمسكن والعقار والرفقاء والأصحاب‏:‏ فهذا رجل محابه كلها في الدنيا فالدنيا جنته إذ الجنة عبارة عن البقعة الجامعة لجميع المحاب فموته خروج من الجنة وحيلولة بينه وبين ما يشتهيه ولا يخفى حال من يحال بينه وبين ما يشتهيه فإذا لم يكن له محبوب سوى الله تعالى وسوى ذكره ومعرفته والفكر فيه والدنيا وعلائقها شاغلة له عن المحبوب فالدنيا إذن سجنه لأن السجن عبارة عن البقعة المانعة للمحبوس عن الاسترواح إلى محابه فموته قدوم على محبوبه وخلاص من السجن ولا يخفى حال من أفلت من السجن وخلي بينه وبين محبوبه بلا مانع ولا مكدر فهذا أول ما يلقاه كل من فارق الدنيا عقيب موته من الثواب والعقاب فضلاً عما أعده الله لعباده الصالحين مما لم تره عين ولا تسمعه أذن ولا خطر على قلب بشر وفضلاً عما أعده الله تعالى للذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ورضوا بها واطمأنوا إليها من الأنكال والسلاسل والأغلال وضروب الخزي والنكال فنسأل الله تعالى أن يتوفانا مسلمين ويلحقنا بالصالحين ولا مطمع في إجابة هذا الدعاء إلا باكتساب حب الله تعالى ولا سبيل إليه إلا بإخراج حب غيره من القلب وقطع العلائق عن كل ما سوى الله تعالى من جاه ومال ووطن فالأولى أن تدعو بما دعا به نبينا صلى الله عليه وسلم إذ قال‏:‏ ‏"‏ اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك وحب ما يقربني إلى حبك واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد ‏"‏ والغرض أن غلبة الرجاء عند الموت أصلح لأنه أجلب للمحبة وغلبة الخوف قبل الموت أصلح لأنه أحرق لنار الشهوات وأقمع لمحبة الدنيا عن القلب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه ‏"‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ‏"‏‏.‏

ولما حضرت سليمان التيمي الوفاة قال لابنه‏:‏ يا بني حدثني بالرخص واذكر لي الرجاء حتى ألقى الله على حسن الظن به‏.‏

وكذلك لما حضرت الثوري الوفاة واشتد جزعه جمع العلماء حوله يرجونه‏.‏

وقال أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه لابنه عند الموت‏:‏ اذكر لي الأخبار التي فيها الرجاء وحسن الظن ‏.‏

والمقصود من ذلك كله أن يحبب الله تعالى إلى نفسه ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام‏:‏ أن حببني إلى عبادي فقال‏:‏ بماذا قال‏:‏ بأن تذكر لهم آلائي ونعمائي‏.‏

فإذن غاية السعادة أن يموت محباً لله تعالى وإنما تحصل المحبة بالمعرفة بإخراج حب الدنيا من القلب حتى تصير الدنيا كلها كالسجن المانع من المحبوب ولذلك رأى بعض الصالحين أبا سليمان الداراني في المنام وهو يطير فسأله فقال‏:‏ الآن أفلت فلما أصبح سأل عن حاله فقيل له‏:‏ إنه مات البارحة‏.‏

بيان الدواء الذي يستجلب حال الخوف

اعلم أن ما ذكرناه في حال الصبر وشرحناه في كتاب الصبر والشكر هو كاف في هذا الغرض لأن الصبر لا يمكن إلا بعد حصول الخوف والرجاء لأن أول مقامات الدين اليقين الذي هو عبارة عن قوة الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر والجنة والنار وهذا اليقين بالضرورة يهيج الخوف من النار والرجاء للجنة والرجاء والخوف يقويان على الصبر فإن الجنة قد حفت بالمكاره فلا يصبر على تحملها إلا بقوة الرجاء والنار قد حفت بالشهوات فلا يصبر على قمعها إلا بقوة الخوف ولذلك قال علي كرم الله وجهه‏:‏ من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات‏.‏

ثم يؤدي مقام الصبر المستفاد من الخوف والرجاء إلى مقام المجاهدة والتجرد لذكر الله تعالى والفكر على الدوام ويؤدي دوام الذكر إلى الأنس ودوام الفكر إلى كمال المعرفة ويؤدي كمال المعرفة والأنس إلى المحبة ويتبعها مقام الرضا والتوكل وسائر المقامات فهذا هو الترتيب في سلوك منازل الدين وليس بعد أصل اليقين مقام سوى الخوف والرجاء ولا بعدهما مقام سوى الصبر وبه المجاهدة والتجرد لله ظاهراً وباطناً ولا مقام بعد المجاهدة لمن فتح له الطريق إلا الهداية والمعرفة ولا مقام بعد المعرفة إلا المحبة والأنس ومن ضرورة المحبة الرضا يفعل المحبوب والثقة بعنايته وهو التوكل فإذن فيما ذكرناه في علاج الصبر كفاية ولكنا نفرد الخوف بكلام جملي فنقول‏:‏ الخوف يحصل بطريقين مختلفين أحدهما أعلى من الآخر ومثاله‏:‏ أن الصبي إذا كان في بيت فدخل عليه سبع أو حية ربما كان لا يخاف وربما مد اليد إلى الحية ليأخذها ويلعب بها ولكن إذا كان معه أبوه وهو عاقل خاف من الحية وهرب منها فإذا نظر الصبي إلى أبيه وهو ترتعد فرائصه ويحتال في الهرب منها قام معه وغلب عليه الخوف ووافقه في الهرب فخوف الأب عن بصيرة ومعرفة بصفة الحية وسمها وخاصيتها وسطوة السبع وبطشه وقلة مبالاته وأما خوف الابن فإيمانه بمجرد التقليد لأنه يحسن الظن بأبيه ويعلم أنه لا يخاف إلا من سبب مخوف في نفسه فيعلم أن السبع مخوف ولا يعرف وجهه وإذا عرفت هذا المثال فاعلم أن الخوف من الله تعالى على مقامين‏:‏ أحدهما الخوف من عذابه والثاني الخوف منه فأما الخوف منه فهو خوف من العلماء وأرباب القلوب العارفين من صفاته ما يقتضي الهيبة والخوف والحذر المطلعين على سر قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ويحذركم الله نفسه ‏"‏ وقوله عز وجل ‏"‏ اتقوا الله حق تقاته ‏"‏ وأما الأول فهو خوف عموم الخلق وهو حاصل بأصل الإيمان بالجنة والنار وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية وضعفه بسبب الغفلة وسبب ضعف الإيمان وإنما تزول الغفلة بالتذكير والوعظ وملازمة الفكر في أهوال يوم القيامة وأصناف العذاب في الآخرة وتزول أيضاً بالنظر إلى الخائفين ومجالستهم ومشاهدة أحوالهم فإن فاتت المشاهدة فالسماع لا يخلو عن تأثير وأما الثاني وهو الأعلى فأن يكون الله هو المخوف أعني أن يخاف العبد الحجاب عنه ويرجو القرب منه‏.‏

قال ذو النون رحمه الله تعالى‏:‏ خوف النار عند خوف الفراق كقطرة قطرت في بحر لجي‏.‏

وهذه خشية العلماء حيث قال تعالى ‏"‏ إنما يخشى الله من عباده العلماء ‏"‏ ولعموم المؤمنين أيضاً حظ من هذه الخشية ولكن هو بمجرد التقليد أيضاً هو خوف الصبي من الحية تقليداً لأبيه وذلك لا يستند إلى بصيرة فلا جرم يضعف ويزول على قرب حتى إن الصبي ربما يرى المعزم يقدم على أخذ الحياة فينظر إليه ويغتر به فيتجرأ على أخذها تقليداً له كما احترز من أخذها تقليداً لأبيه والعقائد التقليدية ضعيفة في الغالب إلا إذا قويت بمشاهدة أسبابها المؤكدة لها على الدوام وبالمواظبة على مقتضاها في تكثير الطاعات واجتناب المعاصي مدة طويلة على الاستمرار فإذن من ارتقى إلى ذروة المعرفة وعرف الله تعالى خافه بالضرورة فلا يحتاج إلى علاج لجلب الخوف كما أن من عرف السبع ورأى نفسه واقعاً في مخالبه لا يحتاج إلى علاج لجلب الخوف إلى قلبه بل يخافه بالضرورة شاء أم أبى ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام‏:‏ خفني كما تخاف السبع الضاري‏.‏

ولا حيلة في جلب الخوف من السبع الضاري إلا معرفة السبع ومعرفة الوقوع في مخالبه فلا يحتاج إلى خيلة سواه فمن عرف الله تعالى عرف أنه يفعل ما يشاء ولا يبالي ويحكم ما يريد ولا يخاف قرب الملائكة من غير وسيلة سابقة وأبعد إبليس من غير جريمة سالفة بل صفته ما ترجمه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي ‏"‏‏.‏

وإن خطر ببالك أنه لا يعاقب إلا على معصية ولا يثيب إلا على طاعة فتأمل أنه لم يمد المطيع بأسباب الطاعة حتى يطيع شاء أم أبى ولم يمد العاصي بدواعي المعصية حتى يعصى شاء أم أبى فإنه مهما خلق الغفلة والشهوة والقدرة على قضاء الشهوة كان الفعل واقعاً بها بالضرورة فإن كان أبعده لأنه عصاه فلم حمله على المعصية هل ذلك لمعصية سابقة حتى يتسلسل إلى غير نهاية أو يقف لا محالة على أول لا علة له من جهة العبد بل قضي عليه في الأزل وعن هذا المعنى عبر صلى الله عليه وسلم إذ قال‏:‏ ‏"‏ احتج آدم وموسى عليهما الصلاة والسلام عند ربهما فحج آدم موسى عليه السلام قال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض‏.‏

فقال آدم‏:‏ أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجياً فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى‏:‏ بأربعين عاماً قال آدم‏:‏ فهل وجدت فيها ‏"‏ وعصى آدم ربه فغوى ‏"‏ قال نعم‏.‏

قال‏:‏ أفتلومني على أن عملت عملاً كتبه الله علي قبل أن أعمله وقبل أن يخلقني بأربعين سنة قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ فحج آدم موسى ‏"‏ فمن عرف السبب في هذا الأمر معرفة صادرة عن نور الهداية فهو من خصوص العارفين المطلعين على سر القدر ومن سمع هذا فآمن به وصدق بمجرد السماع فهو من عموم المؤمنين ويحصل لكل واحد من الفريقين خوف فإن كل عبد فهو واقع في قبضة القدرة وقوع الصبي الضعيف في مخالب السبع والسبع قد يغفل بالاتفاق فيخليه وقد يهجم عليه فيفترسه وذلك بحسب ما يتفق ولذلك الاتفاق أسباب مرتبة بقدر معلوم ولكن إذا أضيف إلى من لا يعرفه سمي اتفاقاً وإن أضيف إلى علم الله لم يجز أن يسمى اتفاقاً والواقع في مخالب السبع لو كملت معرفته لكان لا يخاف السبع لأن السبع مسخر‏:‏ إن سلط عليه الجوع افترس وإن سلط عليه الغفلة خلى وترك فإنما يخاف خالق السبع وخالق صفاته فلست أقول مثال الخوف من الله تعالى الخوف من السبع بل إذا كشف الغطاء علم أن الخوف من السبع هو عين الخوف من الله تعالى لأن المهلك بواسطة السبع هو الله فاعلم أن سباع الآخرة مثل سباع الدنيا وأن الله تعالى خلق أسباب العذاب وأسباب الثواب وخلق لكل واحد أهلاً يسوقه القدر المتفرع عن القضاء الجزم الأزلي إلى ما خلق له فخلق الجنة وخلق لها أهلاً سخروا لأسبابها شاؤوا أم أبوا وخلق النار وخلق لها أهلاً سخروا لأسبابها شاؤوا أم أبوا فلا يرى أحد نفسه في ملتطم أمواج القدر إلا غلبه الخوف بالضرورة فهذه مخاوف العارفين بسر القدر فمن قعد به القصور عن الارتفاع إلى مقام الاستبصار فسبيله أن يعالج نفسه الأخبار والآثار فيطالع أحوال الخائفين العارفين وأقوالهم وينسب عقولهم ومناصبهم إلى مناصب الراجين المغرورين فلا يتمارى في أن الإقتداء بهم أولى لأنهم الأنبياء والأولياء والعلماء‏.‏

وأما الآمنون فهم الفراعنة والجهال والأغبياء‏.‏

أما رسولنا صلى الله عليه وسلم فهو سيد الأولين والآخرينوكان أشد الناس خوفاًحتى روي أنه كان يصلي على طفل‏:‏ ففي رواية أنه سمع في دعائه يقول‏:‏ ‏"‏ اللهم قِه عذاب القبر وعذاب النار ‏"‏ وفي رواية ثانية‏:‏ أنه سمع قائلاً يقول‏:‏ هنيئاً لك عصفور من عصافير الجنة فغضب وقال‏:‏ ‏"‏ ما يدريك أنه كذلك والله إني رسول الله وما أدري ما يصنع بي‏!‏ إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم ‏"‏‏.‏

وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك أيضاً على جنازة عثمان بن مظعون وكان من المهاجرين الأولين لما قالت أم سلمة‏:‏ هنيئاً لك الجنة فكانت تقول أم سلمة بعد ذلك‏:‏ والله لا أزكي أحداً بعد عثمان‏.‏

وقال محمد بن خولة الحنفية‏:‏ والله لا أزكي أحداً غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي الذي ولدني قال‏:‏ فثارت الشيعة عليه فأخذ يذكر من فضائل علي ومناقبه‏.‏

وروي في حديث آخر عن رجل من أهل الصفة استشهد فقالت أمه هنيئاً لك عصفور من عصافير الجنة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلت في سبيل الله فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ وما يدريك لعله كان يتكلم بما لا ينفعه ويمنع ما لا يضره ‏"‏‏.‏

وفي حديث آخر أنه دخل صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه وهو عليل فسمع امرأة تقول‏:‏ هنيئاً لك الجنة فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من هذه

المتألية على الله تعالى فقال المريض‏:‏ هي أمي يا رسول الله فقال‏:‏ ‏"‏ وما يدريك لعل فلاناً كان يتكلم بما لا يعنيه ويبخل بما لا يغنيه ‏"‏ وكيف لا يخاف المؤمنون كلهم وهو صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ شيبتني هود وأخواتها ‏"‏ سورة الواقعة وإذا الشمس كورت وعم يتساءلون فقال العلماء‏:‏ لعل ذلك لما في سورة هود من الإبعاد كقوله تعالى ‏"‏ ألا بعداً لعاد قوم هود ‏"‏ ‏"‏ ألا بعداً لثمود ‏"‏ ‏"‏ ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود ‏"‏ مع علمه صلى الله عليه وسلم بأنه لو شاء الله ما أشركوا إذ لو شاء لأتى كل نفس هداها وفي سورة الواقعة ‏"‏ ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة ‏"‏ أي جف القلم بما هو كائن وتمت السابقة حتى نزلت الواقعة‏:‏ إما خافضة قوماً كانوا مرفوعين في الدنيا وإما رافعة قوماً كانوا مخفوضين في الدنيا‏.‏

وفي سورة التكوير أهوال يوم القيامة وانكشاف الخاتمة وهو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت ‏"‏ وفي عم يتساءلون ‏"‏ يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ‏"‏ الآية‏.‏

وقوله تعالى ‏"‏ لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صواباً ‏"‏ والقرآن من أوله إلى آخره مخاوف لمن قرأه بتدبر ولو لم يكن فيه إلا قوله تعالى ‏"‏ وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى ‏"‏ لكان كافياً إذ علق المغفرة على أربعة شروط يعجز العبد عن آحادها وأشد منه قوله تعالى ‏"‏ فأما من تاب وآمن وعمل صالحاً فعسى أن يكون من المفلحين ‏"‏‏.‏

وقوله تعالى ‏"‏ ليسأل الصادقين عن صدقهم ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ سنفرغ لكم آية الثقلان ‏"‏ وقوله عز وجل ‏"‏ أفأمنوا مكر الله ‏"‏ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد ‏"‏ وقوله تعالى ‏"‏ يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفداً ‏"‏ الآيتين‏.‏

وقوله تعالى ‏"‏ وإن منكم إلا واردها ‏"‏ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ اعملوا ما شئتم ‏"‏ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ‏"‏ الآية‏.‏

وقوله‏:‏ ‏"‏ فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ‏"‏ الآيتين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وقدمنا إلى ما عملوا من عمل ‏"‏ الآية‏.‏

وكذلك قوله تعالى ‏"‏ والعصر إن الإنسان لفي خسر ‏"‏ إلى آخر السورة فهذه أربع شروط للخلاص من الخسران وإنما كان خوف الأنبياء مع ما فاض عليهم من النعم لأنهم لم يأمنوا مكر الله تعالى ‏"‏ فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون ‏"‏ حتى روي أن النبي وجبريل عليهما الصلاة والسلام بكيا خوفاً من الله تعالى فأوحى الله إليهما لم تبكيان وقد أمنتكما فقالا‏:‏ ومن يأمن مكرك وكأنهما إذ علما أن الله هو علام الغيوب وأنه لا وقوف لهما على غاية الأمور لم يأمنا أن يكون قوله‏:‏ قد أمنتكما ابتلاءً وامتحاناً لهما ومكراً بهما حتى إن سكن خوفهما ظهر أنهما قد أمنا من المكر وما وفيا بقولهما كما أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما وضع في المنجنيق قال‏:‏ حسبي الله وكانت هذه من الدعوات العظام فامتحن وعورض بجبريل في الهواء حتى قال‏:‏ ألك حاجة فقال‏:‏ أما إليك فلا فكان ذلك وفاءً بحقيقة قوله حسبي الله فأخبر الله تعالى عنه فقال‏:‏ ‏"‏ وإبراهيم الذي وفى ‏"‏ أي بموجب قوله‏:‏ حسبي الله وبمثل هذا أخبر عن موسى صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏ ‏"‏ إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ‏"‏ ومع هذا لما ألقى السحرة سحرهم أوجس موسى في نفسه خيفة إذاً لم يأمن مكر الله والتبس الأمر عليه حتى جدد عليه الأمن وقيل له‏:‏ ‏"‏ لا تخف إنك أنت الأعلى ‏"‏ ولما ضعفت شوكة المسلمين يوم بدر قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اللهم إن تهلك هذه العصابة لم يبق على وجه الأرض أحد يعبدك ‏"‏ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه‏:‏ دع عنك مناشدتك ربك فإنه وافٍ لك بما وعدك فكان مقام الصديق رضي الله عنه مقام الثقة بوعد الله وكان مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقام الخوف من مكر الله وهو أتم لأنه لا يصدر إلا عن كمال المعرفة بأسرار الله تعالى وخفايا أفعاله ومعاني صفاته التي يعبر عن بعض ما يصدر عنها بالمكر وما لأحد من البشر الوقوف على كنه صفات الله تعالى ومن عرف حقيقة المعرفة قصور معرفته عن الإحاطة بكنه الأمور عظم خوفه لا محالة ولذلك قال المسيح صلى الله عليه وسلم لما قيل له ‏"‏ أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم ‏"‏ الآية فوض الأمر إلى المشيئة وأخرج نفسه بالكلية من البين لعلمه بأنه ليس له من الأمر بشيء وأن الأمور مرتبطة بالمشيئة ارتباطاً يخرج عن حد المعقولات والمألوفات فلا يمكن الحكم عليها بقياس ولا حدس ولا حسبان فضلاً عن التحقيق والاستيقان وهذا هو الذي قطع قلوب العارفين إذ الطامة الكبرى هي ارتباط أمرك بمشيئة من لا يبالي بك إن أهلك أمثالي ممن لا يحصى ولم يزل في الدنيا يعذبهم بأنواع الآلام والأمراض ويمرض مع ذلك قلوبهم بالكفر والنفاق ثم يخلد العقاب عليهم أبد الآباد ثم يخبر عنه ويقول ‏"‏ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ‏"‏ وقال تعالى ‏"‏ وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم ‏"‏ الآية‏.‏

فكيف لا يخاف ما حق من القول في الأزل ولا يطمع في تداركه ولو كان الأمر آنفاً لكانت الأطماع تمتد إلى حيلة فيه ولكن ليس إلا التسليم فيه والاستقراء خفي السابقة من جلي الأسباب الظاهرة على القلب والجوارح فمن يسرت له أسباب الشر وحيل بينه وبين أسباب الخير وأحكمت علاقته من الدنيا فكأنه كشف له على التحقيق سر السابقة التي سبقت له بالشقاوة إذ كل ميسر لما خلق له وإن كانت الخيرات كلها ميسرة والقلب بالكلية عن الدنيا منقطعاً وبظاهره وباطنه على الله مقبلاً‏:‏ كان هذا يقتضي تخفيف الخوف لو كان الدوام على ذلك موثوقاً به ولكن خطر الخاتمة وعسر الثبات يزيد نيران الخوف إشعالاً ولا يمكنها من الانطفاء وكيف يؤمن تغير الحال وقلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن وأن القلب أشد تقلباً من القدر في غليانها وقد قال مقلب القلوب عز وجل ‏"‏ إن عذاب ربهم غير مأمون ‏"‏ فأجهل الناس من أمنه وهو ينادي بالتحذير من الأمن ولولا أن الله لطف بعباده العارفين إذ روح قلوبهم بروح الرجاء لاحترقت قلوبهم من نار الخوف‏.‏

فأسباب الرجاء رحمة لخواص الله وأسباب الغفلة رحمة على عوام الخلق من وجه إذ لو انكشف الغطاء لزهقت النفوس وتقطعت القلوب من خوف مقلب القلوب‏.‏

قال بعض العارفين‏:‏ لو حالت بينك وبين من عرفته بالتوحيد خمسين سنة أسطوانة فمات لم أقطع له بالتوحيد لأني لا أدري ما ظهر له من التقلب‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ لو كانت الشهادة على باب الدار والموت على الإسلام عند باب الحجرة لاخترت الموت على الإسلام لأني لا أدري ما يعرض لقلبي بين باب الحجرة وباب الدار‏.‏

وكان أبو الدرداء يحلف بالله ما أحد أمن على إيمانه أن يسلبه عند الموت إلا سلبه‏.‏

وكان سهل يقول‏:‏ خيعه القلم أعلى من الالتفات إلى ما يظهر في الأبد وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان على المنبر فقبض كفه اليمنى ثم قال‏:‏ ‏"‏ هذا كتاب الله كتب فيه أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم لا يزاد فيهم ولا ينقص ‏"‏ ثم قبض كفه اليسرى وقال‏:‏ ‏"‏ هذا كتاب الله كتب فيه أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم لا يزاد فيهم ولا ينقص وليعملن أهل السعادة بعمل أهل الشقاوة حتى يقال كأنهم منهم بل هم هم ثم يستنقذهم الله قبل الموت ولو بفواق ناقة‏.‏

وليعملن أهل الشقاوة بعمل أهل السعادة حتى يقال كأنهم منهم بل هم هم ثم يستخرجهم الله قبل الموت ولو بفواق ناقة السعيد من سعد بقضاء الله والشقي من شقي بقضاء الله والأعمال بالخواتيم ‏"‏ وهذا كانقسام الخائفين إلى من يخاف معصيته وجنايته وإلى من يخاف الله تعالى نفسه لصفته وجلاله وأوصافه التي تقتضي الهيبة لا محالة فهذا أعلى رتبة ولذلك يبقى خوفه وإن كان في طاعة الصديقين وأما الآخر فهو في عرصة الغرور والأمن إن واظب على الطاعات فالخوف من المعصية خوف الصالحين والخوف من الله خوف الموحدين والصديقين وهو ثمرة المعرفة بالله تعالى وكل من عرفه وعرف صفاته علم من صفاته ما هو جدير بأن يخاف من غير جناية بل العاصي لو عرف الله حق المعرفة لخاف الله ولم يخف معصيته ولولا أنه مخوف في نفسه لما سخره للمعصية ويسر له سبيلها ومهد له أسبابها فإن تيسير أسباب المعصية إبعاد ولم يسبق منه قبل المعصية معصية استحق بها أن يسخر للمعصية وتجري عليه أسبابها ولا سبق قبل الطاعة وسيلة توسل بها من يسرت له الطاعات ومهد له سبيل القربات فالعاصي قد قضي عليه بالمعصية شاء أم أبى وكذا المطيع فالذي يرفع محمداً صلى الله عليه وسلم إلى أعلى عليين من غير وسيلة سبقت منه قبل وجوده ويضع أبا جهل في أسفل سافلين من غير جناية سبقت منه قبل وجوده جدير بأن يخاف منه لصفة جلاله فإن من أطاع الله أطاع بأن سلط عليه إرادة الطاعة وآتاه القدرة وبعد خلق الإرادة الجازمة والقدرة التامة يصير الفعل ضرورياً والذي عصى عصى لأنه سلط عليه إرادة قوية جازمة وآتاه الأسباب والقدرة فكان الفعل بعد الإرادة والقدرة ضرورياً فليت شعري ما الذي أوجب إكرام هذا وتخصيصه بتسليط إرادة الطاعات عليه وما الذي أوجب إهانة الآخر وإبعاده بتسليط دواعي المعصية عليه وكيف يحال ذلك على العبد وإذا كانت الحوالة ترجع إلى القضاء الأزلي من غير جناية ولا وسيلة فالخوف ممن يقضي بما يشاء ويحكم بما يريد حزم عند كل عاقل ووراء هذا المعنى سر القدر لا يجوز إفشاؤه ولا يمكن أن تفهم الخوف منه في صفاته جل جلاله إلا بمثال لولا إذن الشرع لم يستجرئ على ذكره ذو بصيرة فقد جاء في الخبر‏:‏ إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام‏:‏ يا داود خفني كما تخاف السبع الضاري‏.‏

فهذا المثال يفهمك حاصل المعنى وإن كان لا يقف بك على سببه فإن الوقوف على سببه وقوف على سر القدر ولا يكشف ذلك إلا لأهله‏.‏

والحاصل أن السبع يخاف لا لجناية سبقت إليه منك بل لصفته وبطشه وسطوته وكبره وهيبته ولأنه يفعل ما يفعل ولا يبالي فإن قتلك لم يرق قلبه ولا يتألم بقتلك وإن خلاك لم يخلك شفقة عليك وإبقاء على روحك بل أنت عنده أخس من أن يلتفت إليك حياً كنت أو ميتاً بل إهلاك ألف مثلك وإهلاك نملة عنده على وتيرة واحدة إذ لا يقدح ذلك في عالم سبعيته وما هو موصوف به من قدرته وسطوته ولله المثل الأعلى ولكن من عرفه عرف بالمشاهدة الباطنة التي هي أقوى وأوثق وأجلى من المشاهدة الظاهرة أنه صادق في قوله‏:‏ ‏"‏ هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي ‏"‏ ويكفيك من موجبات الهيبة بالاستغناء وعدم المبالاة‏.‏

الطبقة الثانية من الخائفين‏:‏ أن يتمثل في أنفسهم ما هو المكروه وذلك مثل سكرات الموت وشدته أو سؤل منكر ونكير أو عذاب القبر أو هول المطلع أو هيبة الموقف بين يدي الله تعالى والحياء من كشف الستر والسؤال عن النقير والقطمير أو الخوف من الصراط وحدته وكيفية العبور عليه أو الخوف من النار وأغلالها وأهوالها أو الخوف من الحرمان عن الجنة دار النعيم والملك المقيم وعن نقصان الدرجات أو الخوف من الحجاب عن الله تعالى وكل هذه الأسباب مكروهة في نفسها لا محالة مخوفة وتختلف أحوال الخائفين فيها‏.‏

وأعلاها رتبة هو خوف الفراق والحجاب عن الله تعالى وهو خوف العارفين وما قبل ذلك هو خوف العاملين والصالحين والزاهدين وكافة العالمين ومن لم تكمل معرفته ولم تنفتح بصيرته لم يشعر بلذة الوصال ولا بألم البعد والفراق وإذا ذكر له أن العارف لا يخاف النار وإنما يخاف الحجاب وجد ذلك في باطنه منكراً وتعجب منه في نفسه وربما أنكر لذة النظر إلى وجه الله الكريم لولا منع الشرع إياه من إنكاره فيكون اعترافه به باللسان عن ضرورة التقليد وإلا فباطنه لا يصدق به لأنه لا يعرف إلا لذة البطن والفرج والعين بالنظر إلى الألوان والوجوه الحسان وبالجملة كل لذة تشاركه فيها البهائم فأما لذة العارفين فلا يدركها غيرهم وتفصيل ذلك وشرحه حرام مع من ليس أهلاً له ومن كان أهلاً استبصر بنفسه واستغنى عن أن يشرحه له غيره فإلى هذه الأقسام يرجع خوف الخائفين نسأل الله تعالى حسن التوفيق بكرمه‏.‏